من كهفِ الأُمِّيَّةِ إلى مقامِ الإحسان
بديع عاصم الزمان
يا من تسمّى بالهدى وهو في سُكرِ الهوى،
أأنتَ وارثُ النور، أم قاتلُ الضياءِ وباكِيَه؟
أعَربيٌّ؟ فأينَ نَفَسُ العدالةِ في رُكامِ لسانِك؟
وأين "لا إله إلا الله" في خُطاها المُخضّبةِ بالأنانيّة؟
قليلٌ منكم مؤمنون،
وما أكثرَ المسلمينَ في دفاترِ الإحصاء،
وما أندرَهم في سُلوكِ الأنفُس!
حمَلتم الرسالة، نعم...
لكن لا على رُكبٍ خشيةً، بل على أكتافِ الهوى،
ترجون بها جاهًا، وتُقايضون بها السُّلطان.
فأنّى لِقومٍ لا يعرفون أصلهم، أن يقودوا العالَمَ إلى مستقرِّ النور؟
وأنّى لقلوبٍ لم تُشفَ... أن تُشفِي؟
يا قوم، ليست السيادةُ بالدم، ولا باللسان،
بل بالذَّاتِ إذا خضعتْ للحق، وسجدتْ للهِ صادقةً،
وخرجتْ من كهفِ الأمِّيّةِ إلى مقامِ الإحسان.
كهفٌ... من سكنه لم يسمع الهدى،
ولو صُبَّ الحقُّ له صبًّا من ذهبٍ مصهور،
ولو كُسيت الجدرانُ بآياته... لما انتبهوا!
قرأوا، نعم...
لكنهم نسخوا القشورَ عن فلاسفةٍ،
وشربوا عصورَهم كأسًا بكأس،
ثم عادوا يلبسون رداءَ أوّلهم، منزوعَ روحِ محمد، مطفأَ مسيرته.
ترجموا... لكنهم ما ترجموا أنفسهم،
ولا حاسبوا رغبةَ النفس،
ولا طهّروا القلبَ من جاهليّةِ التملكِ،
ولا من سُخرةِ السطوةِ في قُبّةِ الدين.
عندهم العلمُ تكديس،
والفهمُ تفتيتٌ للكُلِّ إلى صور،
ثم صمتٌ طويلٌ... كصمتِ القبور.
أقولها... لا الكل،
لكن الجزءَ الفاسدَ أشعل نارَه في الهامش، فاحترق المتن.
وها هو الزمانُ يشهد...
أن الحروفَ غدت نياشينَ على صدور الغافلين،
وأنّ الحقَّ في الصمت أطهرُ منه في فصاحةِ المُمثّلين.
فمن يُعيدُ للقلوبِ ميثاقَها؟
ومن يبعثُ في دروبِ التائهين سراجًا، لا مرآةً تعكس الغبار؟
ومن يخلعُ عن فكرِ الأمّةِ طاغوتَ التكرار؟
يا من أضعتم السُّلَّمَ في متاهةِ التنظير،
أما آنَ لوجوهِكم أن تسجدَ للحق، لا للوُعّاظ؟
أما آنَ لأيديكم أن تزرعَ الحبَّ، لا أن تحفرَ الأخاديدَ في صدرِ المساكين؟
فالإحسانُ ليس حكايةً في كتاب،
ولا مقامًا للمتفيقهين على أبوابِ السلاطين،
بل هو مقامُ من رأى اللهَ في كلِّ نفس،
فخافَ أن يُخزيها.
مقامُ من لا يسجدُ إلّا وقد طهَّر نفسه من نفسه.
فيا طالبَ الإحسانِ في عصر الطلاء،
دع كهفَ الأميّةِ لأهله،
واهْرُب إلى الصادقين.
إلى مقامٍ لا يَعلوهُ إلا من تخلّى،
وتجلّى له النورُ إذ زكّى... فاستعلى.
فهناك، لا تُقاس القلوبُ بكثرة الحفظ،
ولا تُوزن الأرواحُ بعمائمِ الخطباء،
بل بدمعةٍ خفيّةٍ تنبعُ من خشية،
وصمتٍ يُناجي اللهَ حين يضجُّ الناسُ بالقول.
فمن كان لله... لم يحتج إلى موطن،
ومن سجد له خالصًا،
نطقت جوارحه بالإحسان... ولو صمت.
---